الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، أما بعد: فقد يلجأ بعض أئمة المساجد إلى القراءة من المصحف في صلاة التراويح، كأن يكون غير حافظ للقرآن أو كان حفظه ضعيفاً، وخاصة في المساجد التي تريد إكمال المصحف في ليالي رمضان، فما حكم القراءة من المصحف، هل هو عمل مشروع أم محدث؟ وما قول العلماء في ذلك؟. نترك الكلام مع أئمة الإسلام ليبينوا وجهات نظرهم وآرائهم في ذلك، ودليل كل منهم.
يقول الإمام الكاساني في بدائع الصنائع:
ولو قرأ المصلي من المصحف فصلاته فاسدة عند أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف و محمد: تامة ويكره.
وقال الشافعي: لا يكره.
واحتجوا بما روي أن مولى لعائشة يقال له: ذكوان كان يؤم الناس في رمضان وكان يقرأ من المصحف؛ ولأن النظر في المصحف عبادة والقراءة عبادة، وانضمام العبادة إلى العبادة لا يوجب الفساد، إلا أنه يكره عندهما لأنه تشبه بأهل الكتاب.
و الشافعي يقول : ما نهينا عن التشبه بهم في كل شيء، فإنا نأكل ما يأكلون.
و لأبي حنيفة طريقتان :
إحداهما: أن ما يوجد من حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه أعمال كثيرة ليست من أعمال الصلاة ولا حاجة إلى تحملها في الصلاة فتفسد الصلاة، وقياس هذه الطريقة أن لو كان المصحف موضوعاً بين يديه ويقرأ منه من غير حمل وتقليب الأوراق أو قرأ ما هو مكتوب على المحراب من القرآن لا تفسد صلاته لعدم المفسد وهو العمل الكثير.
والطريقة الثانية: أن هذا يلقن من المصحف فيكون تعلماً منه، ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى متعلماً؟ فصار كما لو تعلم من معلم، وذا يفسد الصلاة كذا هذا، وهذه الطريقة لا توجب الفصل بين ما إذا كان حاملاً للمصحف مقلباً للأوراق وبين ما إذا كان موضوعاً بين يديه ولا يقلب الأوراق.
وأما حديث ذكوان فيحتمل أن عائشة ومن كان من أهل الفتوى من الصحابة لم يعلموا بذلك! وهذا هو الظاهر؛ بدليل أن هذا الصنيع مكروه بلا خلاف، ولو علموا به لما مكنوه من عمل المكروه في جميع شهر رمضان من غير حاجة، ويحتمل أن يكون قول الراوي: كان يؤم الناس في رمضان وكان يقرأ من المصحف إخباراً عن حالتين مختلفتين، أي كان يؤم الناس في رمضان، وكان يقرأ من المصحف في غير حالة الصلاة! إشعاراً منه أنه لم يكن يقرأ القرآن ظاهره فكان يؤم ببعض سور القرآن دون أن يختم، أو كان يستظهر كل يوم ورد كل ليلة ليعلم أن قراءة جميع القرآن في قيام رمضان ليست بفرض. اهـ.
بدائع الصنائع للكاساني (1/ 543).
وذكر بدر الدين العيني في (عمدة القاري) الكلام في حكم القراءة من المصحف في الصلاة فقال بعد أن ذكر حديث قراءة ذكوان من المصحف:
(ظاهره يدل على جواز القراءة من المصحف في الصلاة، وبه قال ابن سيرين والحسن والحكم وعطاء، وكان أنس يصلي وغلام خلفه يمسك له المصحف، وإذا تعايا في آية فتح له المصحف، وأجازه مالك في قيام رمضان، وكرهه النخعي وسعيد بن المسيب والشعبي، وهو رواية عن الحسن، وقال: هكذا يفعل النصارى. وفي مصنف ابن أبي شيبة وسليمان بن حنظلة ومجاهد بن جبير وحماد وقتادة. وقال ابن حزم: لا تجوز القراءة من المصحف ولا من غيره لمصل إماماً كان أو غيره، فإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وبه قال ابن المسيب والحسن والشعبي وأبو عبد الرحمن السلمي، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي! قال صاحب (التوضيح): وهو غريب لم أره عنه، قلت: القراءة من مصحف في الصلاة مفسدة عند أبي حنيفة؛ لأنه عمل كثير، وعند أبي يوسف ومحمد يجوز؛ لأن النظر في المصحف عبادة، ولكنه يكره لما فيه من التشبه بأهل الكتاب في هذه الحالة، وبه قال الشافعي! وأحمد وعند مالك وأحمد في رواية: لا تفسد في النفل فقط.
فتبين من خلال ما سبق أن في المسألة أقوالاً، منهم من قال بجوازه مطلقاً من غير كراهة، ومنهم من أجازه مع الكراهة، ومنهم من منعه مطلقاً وعد الصلاة باطلة إن قرأ من مصحف فيها.
وقد سئلت اللجنة الدائمة في السعودية هذه السؤال:
ما حكم قراءة القرآن الكريم في المصحف في قيام رمضان؟
فأجابت اللجنة بالآتي:
اختلف أهل العلم في حكم ذلك، فكرهه بعضهم وأجازه جمهورهم، ففي كتاب قيام الليل وقيام رمضان للشيخ العلامة محمد بن نصر المروزي: عن ابن أبي مليكة أن ذكوان أبا عمرو كانت عائشة أعتقته عن دبر فكان يؤمها ومن معها في رمضان في المصحف1، وسئل ابن شهاب عن الرجل يؤم الناس في رمضان في المصحف، قال: مازالوا يفعلون ذلك منذ كان الإسلام، كان خيارنا يقرؤون في المصاحف. وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه أنه كان يأمره أن يقوم بأهله في رمضان، ويأمره أن يقرأ لهم في المصحف، ويقول: أسمعني صوتك. وعن أيوب عن محمد أنه كان لا يرى بأساً أن يؤم الرجل القوم في التطوع يقرأ في المصحف، وقال عطاء في الرجل يؤم في رمضان من المصحف: لا بأس به. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا أرى بالقراءة من المصحف في رمضان بأساً، يريد القيام. وقال ابن وهب رحمه الله: سئل مالك رحمه الله عن أهل قرية ليس أحد منهم جامعاً للقرآن، أترى أن يجعلوا مصحفاً يقرأ لهم رجل منهم فيه؟ فقال: لا بأس به.
وفي المنتهى وشرحه ما نصه: (ولمصل قراءة في المصحف ونظر فيه، أي: المصحف، قال أحمد: لا بأس أن يصلي بالناس القيام وهو ينظر في المصحف، قيل له: الفريضة؟ قال: لم أسمع فيها شيئاً.
وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف)2 اهـ. وممن كره ذلك مجاهد وإبراهيم وسفيان، كرهوا أن يؤم الرجل القوم في رمضان في المصحف خشية تشبهه بأهل الكتاب، قال محمد ابن نصر في كتابه (قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر): (إنما كره ذلك قوم لأنه من فعل أهل الكتاب، فكرهوا لأهل الإسلام أن يتشبهوا بهم)، وأجاب عن القول بالمشابهة بقوله: (وقراءة القرآن بعيدة الشبه من قراءة كتب الحساب والكتب الواردة؛ لأن قراءة القرآن من عمل الصلاة وليست قراءة كتب الحساب من عمل الصلاة في شيء).
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
عضو/ عبدالله بن سليمان بن منيع. عضو/ عبدالله بن غديان. رئيس اللجنة/ عبدالرزاق عفيفي.3
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: هل يجوز للإمام في أثناء الصلوات الخمس أن يقرأ من المصحف وخاصة صلاة الفجر لأن تطويل القراءة فيها مطلوب وذلك مخافة الغلط أو النسيان؟
فأجاب: يجوز ذلك إذا دعت إليه الحاجة كما تجوز القراءة من المصحف في التراويح لمن لا يحفظ القرآن، وقد كان ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها يصلي بها في رمضان من مصحف، ذكره البخاري في صحيحه تعليقا مجزوماً به، وتطويل القراءة في صلاة الفجر سنة، فإذا كان الإمام لا يحفظ المفصل ولا غيره من بقية القرآن الكريم جاز له أن يقرأ من المصحف، ويشرع له أن يشتغل بحفظ القرآن، وأن يجتهد في ذلك، أو يحفظ المفصل على الأقل حتى لا يحتاج إلى القراءة من المصحف، وأول المفصل سورة ق إلى آخر القرآن، ومن اجتهد في الحفظ يسر الله أمره لقوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، والله ولي التوفيق.4
فتبين بهذا أن كثيراً من العلماء يرون جواز القراءة من المصحف، وإن كان القراءة عن ظهر قلب أفضل إلا لمن لم يكن حافظاً للقرآن، أو كان حفظه ركيكاً يخل بالخشوع ويربك المصلين.
نسأل الله التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري 1/170( معلقا) وابن أبي شيبة (2/338).
2 شرح منتهى الإرادات 1/200.
3 فتاوى اللجنة الدائمة، رقم الفتوى (579).
4 نشرت في (كتاب الدعوة) الجزء الثاني، ص (116).
المصدر: موقع إمام المسجد